فصل: الحياة الطيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 81 ‏)‏

‏{‏والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والله جعل لكم مما خلق ظلالا‏}‏ الظلال‏:‏ كل ما يستظل به من البيوت والشجر‏.‏ وقوله ‏}‏مما خلق‏}‏ يعم جميع الأشخاص المظلة‏.‏ ‏}‏أكنانا‏}‏ الأكنان‏:‏ جمح كن، وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك؛ وهي هنا الغيران في الجبال، جعلها الله عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون به أو يعتزلون عن الخلق فيها‏.‏ وفي الصحيح أنه عليه السلام كان في أول أمره يتعبد بغار حراء ويمكث فيه الليالي‏.‏‏.‏ الحديث، وفي صحيح البخاري قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا هاربا من قومه فارا بدينه مع صاحبه أبي بكر حتى لحقا بغار في جبل ثور، فمكنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما فيه عبدالله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر الحديث‏.‏ انفراد بإخراجه البخاري‏.‏

قوله تعالى‏{‏وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر‏}‏ يعني القمص، واحدها سربال‏.‏ ‏}‏وسرابيل تقيكم بأسكم‏}‏ يعني الدروع التي تقي الناس في الحرب؛ ومنه قول كعب بن زهير‏:‏

شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل

إن قال قائل‏:‏ كيف قال ‏}‏وجعل لكم من الجبال أكنانا‏}‏ ولم يذكر السهل، فالجواب أن القوم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل، وأيضا‏:‏ فذكر أحدهما يدال على الآخر؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني

أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني

قال العلماء‏:‏ في قوله تعالى‏{‏وسرابيل تقيكم بأسكم‏}‏ دليل على اتخاذ العباد عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الأعداء، وقد لبسها النبي صلى الله عليه وسلم تقاة الجراحة وإن كان يطلب الشهادة، وليس للعبد أن يطلبها بأن يستسلم للحتوف وللطعن بالسنان وللضرب بالسيوف، ولكنه يلبس لأمة حرب لتكون له قوة على قتال عدوه، ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويفعل الله بعد ما يشاء‏.‏

قوله تعالى‏{‏كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون‏}‏ قرأ ابن محيصن وحميد ‏}‏تتم‏}‏ بتاءين، ‏}‏نعمته‏}‏ رفعا على أنها الفاعل‏.‏ الباقون ‏}‏يتم‏}‏ بضم الياء على أن الله هو يتمها‏.‏ و‏}‏تسلمون‏}‏ قراءة ابن عباس وعكرمة ‏}‏تسلمون‏}‏ بفتح التاء واللام، أي تسلمون من الجراح، وإسناده ضعيف؛ رواه عباد بن العوام عن حنظلة عن شهر عن ابن عباس‏.‏ الباقون بضم التاء، ومعناه تستسلمون وتنقادون إلى معرفة الله وطاعته شكرا على نعمه‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ والاختيار قراءة العامة؛ لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 82 ‏)‏

‏{‏فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والإيمان‏.‏ ‏}‏فإنما عليك البلاغ‏}‏ أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 83 ‏)‏

‏{‏يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يعرفون نعمة الله‏}‏ قال السدي‏:‏ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، أي يعرفون نبوته ‏}‏ثم ينكرونها‏}‏ ويكذبونه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يريد ما عدد الله عليهم في هذه السورة من النعم؛ أي يعرفون أنها من عند الله وينكرونها بقولهم إنهم ورثوا ذلك عن آبائهم‏.‏ وبمثله قال قتادة‏.‏ وقال عون بن عبدالله‏:‏ هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا، ولولا فلان ما أصبت كذا، وهم يعرفون النفع والضر من عند الله‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرفهم بهذه النعم كلها عرفوها وقالوا‏:‏ نعم، هي كلها نعم من الله، ولكنها بشفاعة آلهتنا‏.‏ وقيل‏:‏ يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها‏.‏ ويحتمل سادسا‏:‏ يعرفونها في الشدة وينكرونها في الرخاء‏.‏ ويحتمل سابعا‏:‏ يعرفونها بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم‏.‏ ويحتمل ثامنا‏:‏ يعرفونها بقلوبهم ويجحدونها بألسنتهم؛ نظيرها ‏}‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم‏}‏النمل‏:‏ 14‏]‏ ‏}‏وأكثرهم الكافرون‏}‏ يعني جميعهم؛ حسبما تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 84 ‏)‏

‏{‏ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويوم نبعث من كل أمة شهيدا‏}‏ نظيره‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد‏}‏النساء‏:‏ 41‏]‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏ثم لا يؤذن للذين كفروا‏}‏ أي في الاعتذار والكلام؛ كقوله‏{‏ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏المرسلات‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وذلك حين تطبق عليهم جهنم، كما تقدم في أول ‏}‏الحجر‏}‏ ويأتي‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا هم يستعتبون‏}‏ يعني يسترضون، أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون‏.‏ وأصل الكلمة من العتب وهي الموجدة؛ يقال‏:‏ عتب عليه يعتب إذا وجد عليه، فإذا فاوضه ما عتب عليه فيه قيل عاتبه، فإذا رجع إلى مسرتك فقد أعتب، والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب؛ قال الهروي‏.‏ وقال النابغة‏:‏

فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته وإن كنت ذا عتبى فمثلك يُعْتِب

 الآية رقم ‏(‏ 85 ‏)‏

‏{‏وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا رأى الذين ظلموا‏}‏ أي أشركوا‏.‏ ‏}‏العذاب‏}‏ أي عذاب جهنم بالدخول فيها‏.‏ ‏}‏فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون‏}‏ أي لا يمهلون؛ إذ لا توبة لهم ثم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 86 ‏:‏ 87 ‏)‏

‏{‏وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون، وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم‏}‏ أي أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها وذلك أن الله يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، خرجه من حديث أنس، والترمذي من حديث أبي هريرة، وفيه‏:‏ ‏(‏فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ ‏}‏قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك‏}‏ أي الذين جعلناهم لك شركاء‏.‏ ‏}‏فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون‏}‏ أي ألقت إليهم الآلهة القول، أي نطقت بتكذيب من عبدها بأنها لم تكن آلهة، ولا أمرتهم بعبادتها، فيُنطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بذلك الملائكة الذين عبدوهم‏.‏ ‏}‏وألقوا إلى الله يومئذ السلم‏}‏ يعني المشركين، أي استسلموا لعذابه وخضعوا لعزه‏.‏ وقيل‏:‏ استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم‏.‏ ‏}‏وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ أي زال عنهم ما زين لهم الشيطان وما كانوا يؤملون من شفاعة آلهتهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 88 ‏)‏

‏{‏الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ عقارب أنيابها كالنخل الطوال، وحيات مثل أعناق الإبل، وأفاعي كأنها البخاتي تضربهم، فتلك الزيادة وقيل‏:‏ المعنى يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى زدنا القادة عذابا فوق السفلة، فأحد العذابين على كفرهم والعذاب الآخر على صدهم‏.‏ ‏}‏بما كانوا يفسدون‏}‏ في الدنيا من الكفر والمعصية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 89 ‏)‏

‏{‏ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم‏}‏ وهم الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة بأنهم قد بلغوا الرسالة ودعوهم إلى الإيمان، في كل زمان شهيد وإن لم يكن نبيا؛ وفيهم قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم أئمة الهدى الذين هم خلفاء الأنبياء‏.‏ الثاني‏:‏ أنهم العلماء الذين حفظ الله بهم شرائع أنبيائه‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا لم تكن فترة إلا وفيها من يوحد الله؛ كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يبعث أمة وحده‏)‏، وسَطيح، وورقة بن نوفل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رأيته ينغمس في أنهار الجنة‏)‏‏.‏ فهؤلاء ومن كان مثلهم حجة على أهل زمانهم وشهيد عليهم‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقوله‏{‏ وجئنا بك شهيدا على هؤلاء‏}‏ تقدم في ‏}‏البقرة و‏}‏النساء‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء‏}‏ نظيره‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏}‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ وقد تقدم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ تبيانا للحلال والحرام‏.‏

 الاية رقم ‏(‏ 90 ‏)‏

‏{‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان‏}‏ روي عن عثمان بن مظعون أنه قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتعجب فقال‏:‏ يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا، فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق‏.‏ وفي حديث - إن أبا طالب لما قيل له‏:‏ إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه ‏}‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان‏}‏ الآية، قال‏:‏ اتبعوا ابن أخي، فوالله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الوليد بن المغيرة ‏}‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان‏}‏ إلى آخرها، فقال‏:‏ يا ابن أخي أعد، فأعاد عليه فقال‏:‏ والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمورق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر، وذكر الغزنوي أن عثمان بن مظعون هو القارئ‏.‏ قال عثمان‏:‏ ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال‏:‏ يا ابن أخي أعد فأعدت فقال‏:‏ والله إن له لحلاوة‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر تمام الخبر‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب‏.‏ وحكى النقاش قال‏:‏ يقال زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه‏.‏

اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان؛ فقال ابن عباس‏:‏ العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض‏.‏ وقيل‏:‏ العدل الفرض، والإحسان النافلة‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ العدل ها هنا استواء السريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية‏.‏ علي بن أبي طالب‏:‏ العدل الإنصاف، والإحسان التفضل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ العدل هو كل مفروض، من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحق‏.‏ والإحسان هو فعل كل مندوب إليه؛ فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حد الإجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان‏.‏ وأما قول ابن عباس ففيه نظر؛ لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل، وذلك هو العدل، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه حسبما يقتضيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل بقوله‏:‏ ‏(‏أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏‏.‏ فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد الفرائض مكملة‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر‏.‏ وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها؛ قال الله تعالى‏{‏ونهى النفس عن الهوى‏}‏النازعات‏:‏ 40‏]‏ وعزوب الأطماع عن الأتباع، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى‏.‏ وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قل وكثر، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى‏.‏

قلت‏:‏ هذا التفصيل في العدل حسن وعدل، وأما الإحسان فقد قال علماؤنا‏:‏ الإحسان مصدر أحسن يحسن إحسانا‏.‏ ويقال على معنيين‏:‏ أحدهما متعد بنفسه؛ كقولك‏:‏ أحسنت كذا، أي حسنته وكلمته، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء‏.‏ وثانيهما متعد بحرف جر؛ كقولك‏:‏ أحسنت إلى فلان، أي أوصلت إليه ما ينتفع به‏.‏

قلت‏:‏ وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا؛ فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى أن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك؛ وهو تعالى غني عن إحسانهم، ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن‏.‏ وهو في حديث جبريل بالمعنى الأول لا بالثاني؛ فإن المعنى الأول راجع إلى إتقان العبادة ومراعاتها بأدائها المصححة والمكملة، ومراقبة الحق فيها واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار‏.‏ وهو المراد بقوله ‏(‏أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏‏.‏ وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين‏:‏ أحدهما غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه‏.‏ ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحالة بقوله‏:‏ ‏(‏وجعلت قرة عيني في الصلاة‏)‏‏.‏ وثانيهما‏:‏ لا تنتهي إلى هذا، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له، وإليه الإشارة بقوله تعالى‏{‏الذي يراك حين تقوم‏.‏ وتقلبك في الساجدين‏}‏الشعراء‏:‏ 218 - 219‏]‏ وقوله‏{‏إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه‏}‏يونس‏:‏ 61‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإيتاء ذي القربى‏}‏ أي القرابة؛ يقول‏:‏ يعطيهم المال كما قال ‏}‏وآت ذا القربى حقه‏}‏الإسراء‏:‏ 26‏]‏ يعني صلته‏.‏ وهذا من باب عطف المندوب على الواجب، وبه استدل الشافعي في إيجاب إيتاء المكاتب، على ما يأتي بيانه‏.‏ وإنما خص ذا القربى لأن حقوقهم أوكد وصلتهم أوجب؛ لتأكيد حق الرحم التي اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته، فقال في الصحيح‏:‏ ‏(‏أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك‏)‏‏.‏ ولا سيما إذا كانوا فقراء‏.‏

قوله تعالى‏{‏وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي‏}‏ الفحشاء‏:‏ الفحش، وهو كل قبيح من قول أو فعل‏.‏ ابن عباس‏:‏ هو الزنى‏.‏ والمنكر‏:‏ ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها‏.‏ وقيل هو الشرك‏.‏ والبغي‏:‏ هو الكبر والظلم والحقد والتعدي؛ وحقيقته تجاوز الحد، وهو داخل تحت المنكر، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره‏.‏ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا ذنب أسرع عقوبة من بغيٍ‏)‏‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏الباغي مصروع‏)‏‏.‏ وقد وعد الله من بُغي عليه بالنصر‏.‏ وفي بعض الكتب المنزلة‏:‏ لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكا‏.‏‏.‏

ترجم الإمام أبو عبدالله بن إسماعيل البخاري في صحيحه فقال‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى‏{‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون‏}‏ وقوله‏{‏إنما بغيكم على أنفسكم‏}‏يونس‏:‏ 23‏]‏، ‏}‏ثم بغي عليه لينصرنه الله‏}‏، وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر‏)‏ ثم ذكر حديث عائشة في سحر لبيد بن الأعصم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال ابن بطال‏:‏ فتأول رضي الله عنه من هذه الآيات ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر؛ كما دل عليه حديث عائشة حيث قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أما الله فقد شفاني وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا‏)‏‏.‏ ووجه ذلك - والله أعلم - أنه تأول في قول الله تعالى‏{‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان‏}‏ الندب بالإحسان إلى المسيء وترك معاقبته على إساءته‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف يصح هذا التأويل في آيات البغي‏.‏ قيل‏:‏ وجه ذلك - والله أعلم - أنه لما أعلم الله عباده بأن ضرر البغي ينصرف على الباغي بقوله‏{‏إنما بغيكم على أنفسكم‏}‏ وضمن تعالى نصرة من بغي عليه، كان الأولى بمن بغي عليه شكر الله على ما ضمن من نصره ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه؛ وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم باليهودي الذي سحره، وقد كان له الانتقام منه بقوله‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏النحل‏:‏ 126‏]‏‏.‏ ولكن آثر الصفح أخذا بقوله‏{‏ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور‏}‏الشورى‏:‏ 43‏]‏‏.‏

تضمنت هذه الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ روي أن جماعة رفعت عاملها إلى أبي جعفر المنصور العباسي، فحاجها العامل وغلبها؛ بأنهم لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جوره في شيء؛ فقام فتى من القوم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإنه عدل ولم يحسن‏.‏ قال‏:‏ فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 91 ‏)‏

‏{‏وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأوفوا بعهد الله‏}‏ لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان بالعدل والإحسان لأن المعنى فيها‏:‏ افعلوا كذا، وانتهوا عن كذا؛ فعطف على ذلك التقدير‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء؛ قاله قتادة ومجاهد وابن زيد‏.‏ والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه‏.‏ روى الصحيح عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة‏)‏ يعني في نصرة الحق والقيام به والمواساة‏.‏ وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن اسحاق قال‏:‏ اجتمعت قبائل من قريش في دار عبدالله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته؛ فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل‏.‏ والفضول هنا جمع فضل للكثرة كفلس وفلوس‏.‏ روى ابن اسحاق عن ابن شهاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لأجبت‏)‏‏.‏ وقال ابن اسحاق‏:‏ تحامل الوليد بن عتبة على حسين بن علي في مال له، لسلطان الوليد فإنه كان أميرا على المدينة؛ فقال له حسين بن علي‏:‏ احلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول‏.‏ قال عبدالله بن الزبير‏:‏ وأنا أحلف والله لئن دعانا لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا‏.‏ وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك‏.‏ وبلغت عبدالرحمن بن عثمان بن عبيدالله التيمي فقال مثل ذلك‏.‏ فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه‏.‏ قال العلماء‏:‏ فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية هو الذي شده الإسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله‏:‏ ‏(‏لا حلف في الإسلام‏)‏‏.‏ والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى‏{‏إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم‏}‏الشورى‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏انصر أخاك ظالما أو مظلوما‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تأخذ على يديه‏:‏ في رواية‏:‏ تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره‏)‏‏.‏ وقد تقدم قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏ يقول بعد تشديدها وتغليظها؛ يقال‏:‏ توكيد وتأكيد، ووكد وأكد، وهما لغتان‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقد جعلتم الله عليكم كفيلا‏}‏ يعني شهيدا‏.‏ ويقال حافظا، ويقال ضامنا‏.‏ وإنما قال ‏}‏بعد توكيدها‏}‏ فرقا بين اليمين المؤكدة بالعزم وبين لغو اليمين وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك التوكيد هو حلف الإنسان في الشيء الواحد مرارا، يردد فيه الأيمان ثلاثا أو أكثر من ذلك؛ كقوله‏:‏ والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا‏.‏ قال‏:‏ فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين‏.‏ وقال يحيى بن سعيد‏:‏ هي العهود، والعهد يمين، ولكن الفرق بينهما أن العهد لا يكفر‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان‏)‏‏.‏ وأما اليمين بالله فقد شرع الله سبحانه فيها الكفارة بخصلة واحدة، وحل ما انعقدت عليه اليمين‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ التوكيد هو أن يحلف مرتين، فإن حلف واحدة فلا كفارة فيه‏.‏ وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 92 ‏)‏

‏{‏ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا‏}‏ النقض والنكث واحد، والاسم النكث والنقض، والجمع الأنكاث‏.‏ فشبهت هذه الآية الذي يحلف ويعاهد ويبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكما ثم تحله‏.‏ ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة كانت تفعل ذلك، فبها وقع التشبيه؛ قال الفراء، وحكاه عبدالله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة، وقال مجاهد وقتادة‏:‏ وذلك ضرب مثل، لا على امرأة معينة‏.‏ و‏}‏أنكاثا‏}‏ نصب على الحال‏.‏ والدخل‏:‏ الدغل والخديعة والغش‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل‏.‏ ‏}‏أن تكون أمة هي أربى من أمة‏}‏ قال المفسرون‏:‏ نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذ حالفت أخرى، ثم جاءت إحداهما قبيلة كثيرة قوية فداخلتها غدرت الأولى ونقضت عهدها ورجعت إلى هذه الكبرى - قاله مجاهد - فقال الله تعالى‏:‏ لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى أو أكثر أموالا فتنقضون أيمانكم إذا رأيتم الكثرة والسعة في الدنيا لأعدائكم المشركين‏.‏ والمقصود النهي عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم، وقد عززتموهم بالأيمان‏.‏ ‏}‏أربى‏}‏ أي أكثر؛ من ربا الشيء يربو إذا كثر‏.‏ والضمير في ‏(‏به‏)‏ يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به‏.‏ ويحتمل أن يعود على الرباء؛ أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك من يجاهد نفسه فيخالفها ممن يتبعها ويعمل بمقتضى هواها؛ وهو معنى قوله‏{‏إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون‏}‏ من البعث وغيره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 93 ‏)‏

‏{‏ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة‏}‏ أي على ملة واحدة‏.‏ ‏}‏ولكن يضل من يشاء‏}‏ بخذلانه إياهم؛ عدلا منه فيهم‏.‏ ‏}‏ويهدي من يشاء‏}‏ بتوفيقه إياهم؛ فضلا منه عليهم، ولا يسأل عما يفعل بل تسألون أنتم‏.‏ والآية ترد على أهل القدر كما تقدم‏.‏ واللام في ‏}‏وليبينن، ولتسئلن‏}‏ مع النون المشددة يدلان على قسم مضمر، أي والله ليبينن لكم ولتسئلن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 94 ‏)‏

‏{‏ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم‏}‏ كرر ذلك تأكيدا‏.‏ ‏}‏فتزل قدم بعد ثبوتها‏}‏ مبالغة في النهي عنه لعظم موقعه في الدين وتردده في معاشرات الناس؛ أي لا تعقدوا الأيمان بالانطواء على الخديعة والفساد فتزل قدم بعد ثبوتها، أي عن الأيمان بعد المعرفة بالله‏.‏ وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه؛ لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر؛ ومن هذا المعنى قول كثير‏:‏

فلما توافينا ثبت وزلت

والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة‏:‏ زلت قدمه؛ كقول الشاعر‏:‏

سيمنع منك السبق إن كنت سابقا وتقتل إن زلت بك القدمان

ويقال لمن أخطأ في شيء‏:‏ زل فيه‏.‏ ثم توعد تعالى بعدُ بعذاب في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة‏.‏ وهذا الوعيد إنما هو فيمن نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن من عاهده ثم نقض عهده خرج من الإيمان، ولهذا قال‏{‏وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله‏}‏ أي بصدكم‏.‏ وذوق السوء في الدنيا هو ما يحل بهم من المكروه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 95 ‏:‏ 96 ‏)‏

‏{‏ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون، ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا‏}‏ نهى عن الرُشا وأخذ الأموال على نقض العهد؛ أي لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا‏.‏ وإنما كان قليلا وإن كثر لأنه مما يزول، فهو على التحقيق قليل، وهو المراد بقوله‏{‏ما عندكم ينفد وما عند الله باق‏}‏ فبين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتحول، وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته ثابت لا يزول لمن وفي بالعهد وثبت على العقد‏.‏ ولقد أحسن من قال‏:‏

المال ينفد حله وحرامه يوما وتبقى في غد آثامه

ليس التقي بمتق لإلهه حتى يطيب شرابه وطعامه

آخر‏:‏

هب الدنيا تساق إليك عفوا أليس مصير ذاك إلى انتقال

وما دنيال إلا مثل فيء أظلك ثم آذن بالزوال

قوله تعالى‏{‏ولنجزين الذين صبروا‏}‏ أي على الإسلام والطاعات وعن المعاصي‏.‏ ‏}‏أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ أي من الطاعات، وجعلها أحسن لأن ما عداها من الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعات من حيث الوعد من الله‏.‏ وقرأ عاصم وابن كثير ‏}‏ولنجزين‏}‏ بالنون على التعظيم‏.‏ الباقون بالياء‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية ‏}‏ولا تشتروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي وخصمه ابن أسوع، اختصما في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلما سمع هذه الآية نكل وأقر له بحقه؛ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 97 ‏)‏

‏{‏من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة‏}‏ شرط وجوابه‏.‏

 وفي الحياة الطيبة خمسة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ أنه الرزق الحلال؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك‏.‏ الثاني‏:‏ القناعة؛ قاله الحسن البصري وزيد بن وهب ووهب بن منبه، ورواه الحكم عن عكرمة عن ابن عباس، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏ الثالث‏:‏ توفيقه إلى الطاعات فإنها تؤديه إلى رضوان الله؛ قال معناه الضحاك‏.‏ وقال أيضا‏:‏ من عمل صالحا وهو مؤمن في فاقة وميسرة فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه ولا عمل صالحا فمعيشته ضنك لا خير فيها‏.‏ وقال مجاهد وقتادة وابن زيد‏:‏ هي الجنة، وقاله الحسن، وقال‏:‏ لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة‏.‏ وقيل هي السعادة، روي عن ابن عباس أيضا‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ هي حلاوة الطاعة‏.‏ وقال سهل بن عبدالله التستري‏:‏ هي أن ينزع عن العبد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق‏.‏ وقال جعفر الصادق‏:‏ هي المعرفة بالله، وصدق المقام بين يدي الله‏.‏ وقيل‏:‏ الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق‏.‏ وقيل‏:‏ الرضا بالقضاء‏.‏ ‏}‏ولنجزينهم أجرهم‏}‏ أي في الآخرة‏.‏ وقال ‏(‏فلنحيينه‏)‏ ثم قال ‏(‏ولنجزينهم‏)‏ لأن ‏(‏من‏)‏ يصلح للواحد والجمع، فأعاد مرة على اللفظ ومرة على المعنى، وقد تقدم‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ جلس ناس من أهل التوراة وناس من أهل الإنجيل وناس من أهل الأوثان، فقال هؤلاء‏:‏ نحن أفضل، وقال هؤلاء‏:‏ نحن أفضل؛ فنزلت‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 98 ‏)‏

‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم‏}‏

هذه الآية متصلة بقوله‏{‏ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء‏}‏النحل‏:‏ 89‏]‏ فإذا أخذت في قراءته فاستعذ بالله من أن يعرض لك الشيطان فيصدك عن تدبره والعمل بما فيه؛ وليس يريد استعذ بعد القراءة؛ بل هو كقولك‏:‏ إذا أكلت فقل بسم الله؛ أي إذا أردت أن تأكل‏.‏ وقد روى جبير بن مطعم عن أبيه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه‏)‏‏.‏ وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ ونقل عن بعض السلف التعوذ بعد القراءة مطلقا، احتجاجا بقوله تعالى‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم‏}‏ ولا شك أن ظاهر ذلك يقتضي أن تكون الاستعاذة بعد القراءة؛ كقوله تعالى‏{‏فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا‏}‏النساء‏:‏ 103‏]‏‏.‏ إلا أن غيره محتمل، مثل قوله تعالى‏{‏وإذا قلتم فاعدلوا‏}‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ ‏}‏وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب‏}‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ وليس المراد به أن يسألها من وراء حجاب بعد سؤال متقدم‏.‏ ومثله قول القائل‏:‏ إذا قلت فاصدق، وإذا أحرمت فاغتسل؛ يعني قبل الإحرام‏.‏ والمعنى في جميع ذلك‏:‏ إذا أردت ذلك؛ فكذلك الاستعاذة‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 99 ‏:‏ 100 ‏)‏

‏{‏إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا‏}‏ أي بالإغواء والكفر، أي ليس لك قدرة على أن تحملهم على ذنب لا يغفر؛ قاله سفيان‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا حجة له على ما يدعوهم إليه من المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ليس عليهم سلطان بحال؛ لأن الله تعالى صرف سلطانه عليهم حين قال عدو الله إبليس لعنه الله ‏}‏ولأغوينهم أجمعين‏.‏ إلا عبادك منهم المخلصين‏}‏الحجر‏:‏ 39 - 40‏]‏ قال الله تعالى‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ قد بينا أن هذا عام يدخله التخصيص، وقد أغوى آدم وحواء عليهما السلام بسلطانه، وقد شوش على الفضلاء أوقاتهم بقوله‏:‏ من خلق ربك‏؟‏ حسبما تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏‏.‏ ‏}‏إنما سلطانه على الذين يتولونه‏}‏ أي يطيعونه‏.‏ يقال‏:‏ توليته أي أطعته، وتوليت عنه، أي أعرضت عنه‏.‏ ‏}‏والذين هم به مشركون‏}‏ أي بالله؛ قاله مجاهد والضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ يرجع ‏}‏به‏}‏ إلى الشيطان؛ قاله الربيع بن أنس والقتيبي‏.‏ والمعنى‏:‏ والذين هم من أجله مشركون‏.‏ يقال‏:‏ كفرت بهذه الكلمة، أي من أهلها‏.‏ وصار فلان بك عالما، أي من أجلك‏.‏ أي والذي تولى الشيطان مشركون بالله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 101 ‏:‏ 102 ‏)‏

‏{‏وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون، قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل‏}‏ قيل‏:‏ المعنى بدلنا شريعة متقدمة بشريعة مستأنفة؛ قاله ابن بحر‏.‏ مجاهد‏:‏ أي رفعنا آية وجعلنا موضعها غيرها‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ نسخنا آية بآية أشد منها عليهم‏.‏ والنسخ والتبديل رفع الشيء مع وضع عيره مكانه‏.‏ ‏}‏قالوا‏}‏ يريد كفار قريش‏.‏ ‏}‏إنما أنت مفتر‏}‏ أي كاذب مختلق، وذلك لما رأوا من تبديل الحكم‏.‏ فقال الله‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ لا يعلمون أن الله شرع الأحكام وتبديل البعض بالبعض‏.‏ وقوله‏{‏قل نزله روح القدس‏}‏ يعني جبريل، نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه‏.‏ وروي بإسناد صحيح عن عامر الشعبي قال‏:‏ وكل إسرافيل بمحمد صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، فكان يأتيه بالكلمة والكلمة، ثم نزل عليه جبريل بالقرآن‏.‏ وفي صحيح مسلم أيضا أنه نزل عليه بسورة ‏}‏الحمد‏}‏ ملك لم ينزل إلى الأرض قط‏.‏ كما تقدم في الفاتحة بيانه‏.‏ ‏}‏من ربك بالحق‏}‏ أي من كلام ربك‏.‏ ‏}‏ليثبت الذين آمنوا‏}‏ أي بما فيه من الحجج والآيات‏.‏ ‏}‏وهدى‏}‏ أي وهو هدى ‏}‏وبشرى للمسلمين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 103 ‏)‏

‏{‏ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر‏}‏ اختلف في اسم هذا الذي قالوا إنما يعلمه؛ فقيل‏:‏ هو غلام الفاكه بن المغيرة واسمه جبر، كان نصرانيا فأسلم؛ وكانوا إذا سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما مضى وما هو آت مع أنه أمي لم يقرأ قالوا‏:‏ إنما يعلمه جبر وهو أعجمي؛ فقال الله تعالى‏{‏لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين‏}‏ أي كيف يعلمه جبر وهو أعجمي هذا الكلام الذي لا يستطيع الإنس والجن أن يعارضوا منه سورة واحدة فما فوقها‏.‏ وذكر النقاش أن مولى جبر كان يضربه ويقول له‏:‏ أنت تعلم محمدا، فيقول‏:‏ لا والله، بل هو يعلمني ويهديني‏.‏ وقال ابن اسحاق‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له جبر، عبد بني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب، فقال المشركون‏:‏ والله ما يعلم محمدا ما يأتي به إلا جبر النصراني‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقنه القرآن؛ ذكره المارودي‏.‏ وذكر الثعلبي عن عكرمة وقتادة أنه غلام لبني المغيرة اسمه يعيش، وكان يقرأ الكتب الأعجمية، فقالت قريش‏:‏ إنما يعلمه بشر، فنزلت‏.‏ المهدوي عن عكرمة‏:‏ هو غلام لبني عامر بن لؤي، واسمه يعيش‏.‏ وقال عبدالله بن مسلم الحضرمي‏:‏ كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار واسم الآخر جبر‏.‏ كذا ذكر الماوردي والقشيري والثعلبي؛ إلا أن الثعلبي قال‏:‏ يقال لأحدهما نبت ويكنى أبا فكيهة، والآخر جبر، وكانا صيقلين يعملان السيوف؛ وكانا يقرأن كتابا لهم‏.‏ الثعلبي‏:‏ يقرأن التوراة والإنجيل‏.‏ الماوردي والمهدوي‏:‏ التوراة‏.‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بهما ويسمع قراءتهما، وكان المشركون يقولون‏:‏ يتعلم منهما، فأنزل الله هذه الآية وأكذبهم‏.‏ وقيل‏:‏ عنوا سلمان الفارسي رضي الله عنه؛ قاله الضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ نصرانيا بمكة اسمه بلعام، وكان غلاما يقرأ التوراة؛ قاله ابن عباس‏.‏ وقال القتبي‏:‏ كان بمكة رجل نصراني يقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية، فربما قعد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الكفار‏:‏ إنما يتعلم محمد منه، فنزلت‏.‏ وفي رواية أنه عداس غلام عتبة بن ربيعة‏.‏ وقيل‏:‏ عابس غلام حويطب بن عبدالعزى ويسار أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي، وكانا قد أسلما‏.‏ والله أعلم

قلت‏:‏ والكل محتمل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله، وكان ذلك بمكة‏.‏ وقال النحاس‏:‏ وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأنه يجوز أن يكونوا أومأوا إلى هؤلاء جميعا، وزعموا أنهم يعلمونه‏.‏

قلت‏:‏ وأما ما ذكره الضحاك من أنه سلمان ففيه بعد؛ لأن سلمان إنما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهذه الآية مكية‏.‏

قوله تعالى‏{‏لسان الذي يلحدون إليه أعجمي‏}‏ الإلحاد‏:‏ الميل؛ يقال‏:‏ لحد وألحد، أي مال عن القصد‏.‏ وقرأ حمزة ‏}‏يلحدون‏}‏ بفتح الياء والحاء؛ أي لسان الذي يميلون إليه ويشيرون أعجمي‏.‏ والعجمة‏:‏ الإخفاء وضد البيان‏.‏ ورجل أعجم وامرأة عجماء، أي لا يفصح؛ ومنه عجم الذنب لاستتاره‏.‏ والعجماء‏:‏ البهيمة؛ لأنها لا توضح عن نفسها‏.‏ وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته‏.‏ والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بكلامهم أعجميا‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والأعجمي أو العجمي الذي أصله من العجم‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ الأعجمي الذي لا يفصح، سواء كان من العرب أو من العجم، وكذلك الأعجم والأعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحا‏.‏ وأراد باللسان القرآن؛ لأن العرب تقول للقصيدة والبيت‏:‏ لسان؛ قال الشاعر‏:‏

لسان الشر تهديها إلينا وخنت وما حسبتك أن تخونا

يعني باللسان القصيدة‏.‏ ‏}‏وهذا لسان عربي مبين‏}‏ أي أفصح ما يكون من العربية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 104 ‏)‏

‏{‏إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين لا يؤمنون بآيات الله‏}‏ أي هؤلاء المشركون الذين لا يؤمنون بالقرآن‏.‏ ‏}‏لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 105 ‏)‏

‏{‏إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله‏}‏ هذا جواب وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالافتراء‏.‏ ‏}‏وأولئك هم الكاذبون‏}‏ هذا مبالغة في وصفهم بالكذب؛ أي كل كذب قليل بالنسبة إلى كذبهم‏.‏ ويقال‏:‏ كذب فلان ولا يقال إنه كاذب؛ لأن الفعل قد يكون لازما وقد لا يكون لازما‏.‏ فأما النعت فيكون لازما ولهذا يقال‏:‏ عصى آدم ربه فغوى، ولا يقال‏:‏ إنه عاص غاو‏.‏ فإذا قيل‏:‏ كذب فلان فهو كاذب، كان مبالغة في الوصف بالكذب؛ قاله القشيري‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 106 ‏)‏

‏{‏من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏من كفر بالله‏}‏ هذا متصل بقوله تعالى‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏النحل‏:‏ 91‏]‏ فكان مبالغة في الوصف بالكذب؛ لأن معناه لا ترتدوا عن بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ أي من كفر من بعد إيمانه وارتد فعليه غضب الله‏.‏ قال الكلبي‏:‏ نزلت في عبدالله بن أبي سرح ومقيس بن ضبابة وعبدالله بن خطل، وقيس بن الوليد بن المغيرة، كفروا بعد إيمانهم‏.‏ وقال الزجاج‏{‏من كفر بالله من بعد إيمانه‏}‏ بدل ممن يفتري الكذب؛ أي إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه؛ لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله‏.‏ وقال الأخفش‏{‏من‏}‏ ابتداء وخبره محذوف، اكتفي منه بخبر‏}‏من‏}‏ الثانية؛ كقولك‏:‏ من يأتنا من يحسن نكرمه‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا من أكره‏}‏ هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، في قول أهل التفسير؛ لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أخذه المشركون وأخذوا أباه وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم، وربطت سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة، وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال؛ فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام‏.‏ وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كيف تجد قلبك‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ مطمئن بالإيمان‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإن عادوا فعد‏)‏‏.‏ وروى منصور بن المعتمر عن مجاهد قال‏:‏ أول شهيدة في الإسلام أم عمار، قتلها أبو جهل، وأول شهيد من الرجال مهجع مولى عمر‏.‏ وروى منصور أيضا عن مجاهد قال‏:‏ أول من أظهر الإسلام سبعة‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وسمية أم عمار‏.‏ فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذوا الآخرين فألبسوهم أدرع الحديد، ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ منهم الجهد كل مبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشي أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يسبهم ويوبخهم، وأتى سمية فجعل يسبها ويرفث، ثم طعن فرجها حتى خرجت الحربة من فمها فقتلها؛ رضي الله عنها‏.‏ قال‏:‏ وقال الآخرون ما سئلوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، فجعلوا يعذبونه ويقولون له‏:‏ ارجع عن دينك، وهو يقول أحد أحد؛ حتى ملوه، ثم كتفوه وجعلوا في عنقه حبلا من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشبي مكة حتى ملوه وتركوه، قال فقال عمار‏:‏ كلنا تكلم بالذي قالوا - لولا أن الله تداركنا - غير بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، فهان على قومه حتى ملوه وتركوه‏.‏ والصحيح أن أبا بكر اشترى بلالا فأعتقه‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن ناسا من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة‏:‏ أن هاجروا إلينا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة حتى أدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية‏.‏ ذكر الروايتين عن مجاهد إسماعيل بن اسحاق‏.‏ وروى الترمذي عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما‏)‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏ وروي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان بن ربيعة‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن صالح‏.‏

لما سمح الله عز وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم؛ وبه جاء الأثر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه‏)‏ الحديث‏.‏ والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق من العلماء؛ قاله القاضي أبو بكر بن العربي‏.‏ وذكر أبو محمد عبدالحق أن إسناده صحيح قال‏:‏ وقد ذكره أبو بكر الأصيلي في الفوائد وابن المنذر في كتاب الإقناع‏.‏

أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر؛ هذا قول مالك والكوفيين والشافعي؛ غير محمد بن الحسن فإنه قال‏:‏ إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلما‏.‏ وهذا قول يرده الكتاب والسنة، قال الله تعالى‏{‏إلا من أكره‏}‏ الآية‏.‏ وقال‏{‏إلا أن تتقوا منهم تقاة‏}‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏ وقال‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض‏}‏النساء‏:‏ 97‏]‏ الآية‏.‏ وقال‏{‏إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان‏}‏النساء‏:‏ 98‏]‏ الآية‏.‏ فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به؛ قاله البخاري‏.‏

ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله، أو الزنى وشرب الخمر وأكل الربا؛ يروى هذا عن الحسن البصري، رضي الله عنه‏.‏ وهو قول الأوزاعي وسحنون من علمائنا‏.‏ وقال محمد بن الحسن‏:‏ إذا قيل للأسير‏:‏ اسجد لهذا الصنم وإلا قتلتك‏.‏ فقال‏:‏ إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويكون نيته لله تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه‏.‏ والصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ؛ ففي الصحيح عن ابن عمر قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال‏:‏ وفيه نزلت ‏}‏فأينما تولوا فثم وجه الله‏}‏البقرة‏:‏ 115‏]‏ في رواية‏:‏ ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة‏.‏ فإذا كان هذا مباحا في السفر في حالة الأمن لتعب النزول عن الدابة للتنفل فكيف بهذا‏.‏ واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود‏:‏ ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلما به‏.‏ فقصر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن يجعل للكلام مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان‏.‏ روي ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق‏.‏ روى ابن القاسم عن مالك أن من أكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع‏.‏

أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة‏.‏

واختلف في الزنى، فقال مطرف وأصبغ وابن عبدالحكم وابن الماجشون‏:‏ لا يفعل أحد ذلك، وإن قتل لم يفعله، فإن فعله فهو آثم ويلزمه الحد؛ وبه قال أبو ثور والحسن‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ الصحيح أنه يجوز الإقدام على الزنى ولا حد عليه، خلافا لمن ألزمه ذلك؛ لأنه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصور الإكراه عليها، وغفل عن السبب في باعث الشهوة وهو الإلجاء إلى ذلك، وهو الذي أسقط حكمه، وإنما يجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري، فقاس الشيء على ضده، فلم يحل بصواب من عنده‏.‏ وقال ابن خويز منداد في أحكامه‏:‏ اختلف أصحابنا متى أكره الرجل على الزنى؛ فقال بعضهم‏:‏ عليه الحد؛ لأنه إنما يفعل ذلك باختياره‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا حد عليه‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ وهو الصحيح‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن أكرهه غير السلطان حد، وإن أكرهه السلطان فالقياس أن يحد، ولكن استحسن ألا يحد‏.‏ وخالفه صاحباه فقالا‏:‏ لا حد عليه في الوجهين، ولم يراعوا الانتشار، وقالوا‏:‏ متى علم أنه يتخلص من القتل بفعل الزنى جاز أن ينتشر‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ لا حد عليه، ولا فرق بين السلطان في ذلك وغير السلطان‏.‏

اختلف العلماء في طلاق المكره وعتاقه؛ فقال الشافعي وأصحابه‏:‏ لا يلزمه شيء‏.‏ وذكر ابن وهب عن عمر وعلي وابن عباس أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئا‏.‏ وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعي وأحمد واسحاق وأبي ثور‏.‏ وأجازت طائفة طلاقه؛ روي ذلك عن الشعبي والنخعي وأبي قلابة والزهري وقتادة، وهو قول الكوفيين‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ طلاق المكره يلزم؛ لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا، وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل‏.‏ وهذا قياس باطل؛ فإن الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق راض به، والمكره غير راض ولا نية له في الطلاق، وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات ‏)‏‏.‏ وفي البخاري‏:‏ وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق‏:‏ ليس بشيء؛ وبه قال ابن عمر وابن الزبير والشعبي والحسن‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق‏.‏ وفسره ابن عيينة فقال‏:‏ إن اللص يقدم على قتله والسلطان لا يقتله‏.‏

وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان‏.‏ الأولى‏:‏ أن يبيع ماله في حق وجب عليه؛ فذلك ماض سائغ لا رجوع فيه عند الفقهاء؛ لأنه يلزمه أداء الحق إلى ربه من غير المبيع، فلما لم يفعل ذلك كان بيعه اختيارا منه فلزمه‏.‏ وأما بيع المكره ظلما أو قهرا فذلك بيع لا يجوز عليه‏.‏ وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم؛ فإن فات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه‏.‏ قال مطرف‏:‏ ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب، وكلما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره، وله أخذ متاعه‏.‏ قال سحنون‏:‏ أجمع أصحابنا وأهل العراق على أن بيع المكره على الظلم والجور لا يجوز‏.‏ وقال الأبهري ‏:‏ إنه إجماع‏.‏

وأما نكاح المكره؛ فقال سحنون‏:‏ أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا‏:‏ لا يجوز المقام عليه، لأنه لم ينعقد‏.‏ قال محمد بن سحنون‏:‏ وأجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا‏:‏ لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة آلاف درهم، وصداق مثلها ألف درهم، أن النكاح جائز وتلزمه الألف ويبطل الفضل‏.‏ قال محمد‏:‏ فكما أبطلوا الزائد على الألف فكذلك يلزمهم إبطال النكاح بالإكراه‏.‏ وقولهم خلاف السنة الثابتة في حديث خنساء بنت خذام الأنصارية، ولأمره صلى الله عليه وسلم بالاستئمار في أبضاعهن، وقد تقدم، فلا معنى لقولهم‏.‏

فان وطئها المكره على النكاح غير مكره على الوطء والرضا بالنكاح لزمه النكاح عندنا على المسمى من الصداق ودرئ عنه الحد‏.‏ وإن قال‏:‏ وطئتها على غير رضا مني بالنكاح فعليه الحد والصداق المسمى؛ لأنه مدع لإبطال الصداق المسمى، وتحد المرأة إن أقدمت وهي عالمة أنه مكره على النكاح‏.‏ وأما المكرهة على النكاح وعلى الوطء فلا حد عليها ولها الصداق، ويحد الواطئ؛ فأعلمه‏.‏ قاله سحنون‏.‏

إذا استكرهت المرأة على الزنى فلا حد عليها؛ لقوله ‏}‏إلا من أكره‏}‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه‏)‏‏.‏ ولقول الله تعالى‏{‏فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم‏}‏النور‏:‏ 33‏]‏ يريد الفتيات‏.‏ وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدها‏.‏ والعلماء متفقون على أنه لا حد على امرأة مستكرهة‏.‏ وقال مالك‏:‏ إذا وجدت المرأة حاملا وليس لها زوج فقالت استكرهت فلا يقبل ذلك منها وعليها الحد، إلا أن تكون لها بينة أو جاءت تدمي على أنها أوتيت، أو ما أشبه ذلك‏.‏ واحتج بحديث عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وبالقول الأول أقول‏.‏

واختلفوا في وجوب الصداق للمستكرهة؛ فقال عطاء والزهري‏:‏ لها صداق مثلها؛ وهو قول مالك والشافعي وأحمد واسحاق وأبي ثور‏.‏ وقال الثوري‏:‏ إذا أقيم الحد على الذي زنى بها بطل الصداق‏.‏ وروي ذلك عن الشعبي، وبه قال أصحاب مالك وأصحاب الرأي‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ القول الأول صحيح‏.‏

إذا أكره الإنسان على إسلام أهله لما لم يحل أسلمها، ولم يقتل نفسه دونها ولا احتمل أذية في تخليصها‏.‏ والأصل في ذلك ما خرجه البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة ودخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فأرسل إليه أن أرسل بها إلي فأرسل بها فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي فقالت اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي هذا الكافر فغط حتى ركض برجله‏)‏‏.‏ ودل هذا الحديث أيضا على أن سارة لما لم يكن عليها ملامة، فكذلك لا يكون على المستكرهة ملامة، ولا حد فيما هو أكبر من الخلوة‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأما يمين المكره فغير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء‏.‏ قال ابن الماجشون‏:‏ وسواء حلف فيما هو طاعة لله أو فيما هو معصية إذ أكره على اليمين؛ وقاله أصبغ‏.‏ وقال مطرف‏:‏ إن أكره على اليمين فيما هو لله معصية أو ليس في فعله طاعة ولا معصية فاليمين فيه ساقطة، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلا فاسقا فيكرهه أن يحلف بالطلاق لا يشرب خمرا، أولا يفسق ولا يغش في عمله، أو الولد يحلف ولده تأديبا له فإن اليمين تلزم؛ وإن كان المكره قد أخطأ فيما يكلف من ذلك‏.‏ وقال به ابن حبيب‏.‏ وقال أبو حنيفة ومن اتبعه من الكوفيين‏:‏ إنه إن حلف ألا يفعل ففعل حنث، قالوا‏:‏ لأن المكره له أن يوري في يمينه كلها، فلما لم يور ولا ذهبت نيته إلى خلاف ما أكره عليه فقد قصد إلى اليمين‏.‏ احتج الأولون بأن قالوا‏:‏ إذا أكره عليها فنيته مخالفة لقوله؛ لأنه كاره لما حلف عليه‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ ومن غريب الأمر أن علماءنا اختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع به أم لا؛ وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم، لا كانت هذه المسألة ولا كانوا‏!‏ وأي فرق يا معشر أصحابنا بين الإكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع‏!‏ فاتقوا الله وراجعوا بصائركم، ولا تغتروا بهذه الروية فإنها وصمة في الدراية‏.‏

إذا أكره الرجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المكس وظلمة السعاة وأهل الاعتداء؛ فقال مالك‏:‏ لا تقية له في ذلك، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا ماله‏.‏ وقال ابن الماجشون‏:‏ لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه‏.‏ وقال ابن القاسم بقول مطرف، ورواه عن مالك، وقاله ابن عبدالحكم وأصبغ‏.‏

قلت‏:‏ قول ابن الماجشون صحيح؛ لأن المدافعة عن المال كالمدافعة عن النفس؛ وهو قول الحسن وقتادة وسيأتي‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام‏)وقال‏:‏ ‏(‏كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه‏)‏‏.‏ وروى أبو هريرة قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجلا يريد أخذ مالي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فلا تعطه مالك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أرأيت إن قاتلني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قاتله‏)‏ قال‏:‏ أرأيت إن قتلني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فأنت شهيد‏)‏ قال‏:‏ أرأيت إن قتلته‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هو في النار‏)‏ خرجه مسلم‏.‏ وقد مضى الكلام فيه‏.‏ وقال مطرف وابن الماجشون‏:‏ وإن بدر الحالف بيمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من ماله وبدنه فحلف له فإنها تلزمه‏.‏ وقاله ابن عبدالحكم وأصبغ‏.‏ وقال أيضا ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب، وإنما حلف خوفا من ضربه وقتله وأخذ ماله‏:‏ فإن كان إنما تبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث‏.‏

قال المحققون من العلماء‏:‏ إذا تلفظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض؛ فإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب‏.‏ ومتى لم يكن كذلك كان كافرا؛ لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها‏.‏ مثاله - أن يقال له‏:‏ اكفر بالله فيقول باللاهي؛ فيزيد الياء‏.‏ وكذلك إذا قيل له‏:‏ أكفر بالنبي فيقول هو كافر بالنبي، مشددا وهو المكان المرتفع من الأرض‏.‏ ويطلق على ما يعمل من الخوص شبه المائدة فيقصد أحدهما بقلبه ويبرأ من الكفر ويبرأ من إثمه‏.‏ فإن قيل له‏:‏ أكفر بالنبيء ‏(‏مهموزا‏)‏ فيقول هو كافر بالنبيء يريد بالمخبر، أي مخبر كان كطليحة ومسلمة الكذاب‏.‏ أو يريد به النبيء الذي قال فيه الشاعر‏:‏

فأصبح رتما دقاق الحصى مكان النبيء من الكاثب

أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة‏.‏ واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له؛ فقال أصحاب مالك‏:‏ الأخذ بالشدة في ذلك واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، ذكره ابن حبيب وسحنون‏.‏ وذكر ابن سحنون عن أهل العراق أنه إذا تهدد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف فله أن يفعل ما أكره عليه من شرب خمر أو أكل خنزير؛ فان لم يفعل حتى قتل خفنا أن يكون آثما لأنه كالمضطر‏.‏ وروى خباب بن الأرت قال‏:‏ شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلت‏:‏ ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون‏)‏‏.‏ فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر وتبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم‏.‏ وهذه حجة من آثر الضرب والقتل والهوان على الرخصة والمقام بدار الجنان‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة ‏[‏الأخدود‏]‏ ‏[‏البروج‏]‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وذكر أبو بكر محمد بن محمد بن الفرج البغدادي قال‏:‏ حدثنا شريح بن يونس عن إسماعيل بن إبراهيم عن يونس بن عبيد عن الحسن أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لأحدهما‏:‏ أتشهد أن محمدا رسول الله‏؟‏ قال نعم‏.‏ قال‏.‏‏:‏ أتشهد أني رسول الله‏؟‏ قال نعم‏.‏ فخلى عنه‏.‏ وقال للآخر‏:‏ أتشهد أن محمدا رسول الله‏؟‏ قال نعم‏.‏ قال‏:‏ وتشهد أني رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ أنا أصم لا أسمع؛ فقدمه وضرب عنقه‏.‏ فجاء هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هلكت، قال‏:‏ ‏(‏وما أهلكك‏)‏‏؟‏ فذكر الحديث، قال‏:‏ أما صاحبك فأخذ بالثقة وأما أنت فأخذت بالرخصة على ما أنت عليه الساعة‏)‏قال‏:‏ أشهد أنك رسول الله‏.‏ قال ‏(‏أنت على ما أنت عليه‏)‏‏.‏ الرخصة فيمن حلفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدله على رجل أو مال رجل؛ فقال الحسن‏:‏ إذا خاف عليه وعلى ماله فليحلف ولا يكفر يمينه؛ وهو قول قتادة إذا حلف على نفسه أو مال نفسه‏.‏ وقد تقدم ما للعلماء في هذا‏.‏

وذكر موسى بن معاوية أن أبا سعيد بن أشرس صاحب مالك استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله أنه ما آواه، ولا يعلم له موضعا؛ قال‏:‏ فحلف له ابن أشرس؛ وابن أشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه، فحلفه بالطلاق ثلاثا، فحلف له ابن أشرس، ثم قال لامرأته‏:‏ اعتزلي فاعتزلته؛ ثم ركب ابن أشرس حتى قدم على البهلول بن راشد القيروان، فأخبره بالخبر؛ فقال له البهلول‏:‏ قال مالك إنك حانث‏.‏ فقال ابن أشرس‏:‏ وأنا سمعت مالكا يقول ذلك، وإنما أردت الرخصة أو كلام هذا معناه؛ فقال له البهلول ابن راشد‏:‏ قال الحسن البصري إنه لا حنث عليك‏.‏ قال‏:‏ فرجع ابن أشرس إلى زوجته وأخذ بقول الحسن‏.‏ وذكر عبدالملك بن حبيب قال‏:‏ حدثني معبد عن المسيب بن شريك عن أبي شيبة قال‏:‏ سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه‏؟‏ فقال نعم؛ ولأن أحلف سبعين يمينا وأحنث أحب إلي أن أدل على مسلم‏.‏ وقال إدريس بن يحيى كان الوليد بن عبدالملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق يأتونه بالأخبار، قال‏:‏ فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه فقال‏:‏ يا رجاء‏!‏ اذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير‏!‏ فقال‏:‏ ما كان ذلك يا أمير المؤمنين؛ فقال له الوليد‏:‏ قل آلله الذي لا إله إلا هو، قال‏:‏ آلله الذي لا إله إلا هو، فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطا، فكان يلقى رجاء فيقول‏:‏ يا رجاء، بك يستقى المطر، وسبعون سوطا في ظهري‏!‏ فيقول رجاء‏:‏ سبعون سوطا في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم‏.‏

واختلف العلماء في حد الإكراه؛ فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به‏.‏ وقال الحسن‏:‏ التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلا أن الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقية‏.‏ وقال النخعي‏:‏ القيد إكراه، والسجن إكراه‏.‏ وهذا قول مالك، إلا أنه قال‏:‏ والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المعتدي وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره‏.‏ وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه‏.‏ وتناقض الكوفيون فلم يجعلوا السجن والقيد إكراه ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس‏.‏ وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف، ولا حنث عليه؛ وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور وأكثر العلماء‏.‏

ومن هذا الباب ما ثبت إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب‏.‏ وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قال‏:‏ لا بأس إذا بلغ الرجل عنك شيء أن تقول‏:‏ والله، إن الله يعلم ما قلت فيك من ذلك من شيء‏.‏ قال عبدالملك بن حبيب‏:‏ معناه أن الله يعلم أن الذي قلت، وهو في ظاهره انتفاء من القول، ولا حنث علن من قال ذلك في يمينه ولا كذب عليه في كلامه‏.‏ وقال النخعي‏:‏ كان لهم كلام من ألغاز الأيمان يدرؤون به عن أنفسهم، لا يرون ذلك من الكذب ولا يخشون فيه الحنث‏.‏ قال عبدالملك‏:‏ وكانوا يسمون ذلك المعاريض من الكلام، إذا كان ذلك في غير مكر ولا خديعة في حق‏.‏ وقال الأعمش‏:‏ كان إبراهيم النخعي إذا أتاه أحد يكره الخروج إليه جلس في مسجد بيته وقال لجاريته‏:‏ قولي له هو والله في المسجد‏.‏ وروى مغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز للرجل من البعث إذا عرضوا على أميرهم أن يقول‏:‏ والله ما أهتدي إلا ما سدد لي غيري، ولا أركب إلا ما حملني غيري؛ ونحو هذا من الكلام‏.‏ قال عبدالملك‏:‏ يعني بقوله ‏(‏غيري‏)‏ الله تعالى، هو مسدده وهو يحمله؛ فلم يكونوا يرون على الرجل في هذا حنثا في يمينه، ولا كذبا في كلامه، وكانوا يكرهون أن يقال هذا في خديعة وظلم وجحدان حق فمن اجترأ وفعل أثم في خديعته ولم تجب عليه كفارة في يمينه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولكن من شرح بالكفر صدرا‏}‏ أي وسعه لقبول الكفر، ولا يقدر أحد على ذلك إلا الله؛ فهو يرد على القدرية‏.‏ و‏(‏صدرا‏)‏ نصب على المفعول‏.‏ ‏}‏فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم‏}‏ وهو عذاب جهنم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 107 ‏:‏ 109 ‏)‏

‏{‏ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون، لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك‏}‏ أي ذلك الغضب‏.‏ ‏}‏بأنهم استحبوا الحياة الدنيا‏}‏ أي اختاروها على الآخرة‏.‏ ‏}‏وأن الله‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع خفض عطفا على ‏}‏بأنهم‏}‏ فقال‏{‏أولئك الذين طبع الله على قلوبهم‏}‏ أي عن فهم المواعظ‏.‏ ‏}‏وسمعهم‏}‏ عن كلام الله تعالى‏.‏ ‏}‏وأبصارهم‏}‏ عن النظر في الآيات‏.‏ ‏}‏وأولئك هم الغافلون‏}‏ عما يراد بهم‏.‏ ‏}‏لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون‏}‏ تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 110 ‏)‏

‏{‏ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا‏}‏ هذا كله في عمار‏.‏ والمعنى وصبروا على الجهاد؛ ذكره النحاس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نزلت في قوم خرجوا مهاجرين إلى المدينة بعد أن فتنهم المشركون وعذبوهم، وقد تقدم ذكرهم في هذه السورة‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في ابن أبي سرح، وكان قد ارتد ولحق بالمشركين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، فاستجار بعثمان فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره النسائي عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ في سورة النحل ‏}‏من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره - إلى قوله - ولهم عذاب عظيم‏}‏ فنسخ، واستثنى من ذلك فقال‏{‏ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏}‏ وهو عبدالله بن سعد بن أبي سرح الذي كان على مصر، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به أن يقتل يوم الفتح؛ فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏}‏ أي إن الله غفور رحيم في ذلك‏.‏ أو ذكرهم‏:‏

 الآية رقم ‏(‏ 111 ‏)‏

‏{‏يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها‏}‏ أي تخاصم وتحاج عن نفسها؛ جاء في الخبر أن كل أحد يقول يوم القيامة‏:‏ نفسي نفسي‏!‏ من شدة هول يوم القيمة سوى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يسأل في أمته‏.‏ وفي حديث عمر أنه قال لكعب الأحبار‏:‏ يا كعب، خوّفنا هيّجنا حدّثنا نبّهنا‏.‏ فقال له كعب‏:‏ يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لأتت عليك تارات لا يهمك إلا نفسك، وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي منتخب إلا وقع جاثيا على ركبتيه، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلي بالخلة فيقول‏:‏ يا رب، أنا خليلك إبراهيم، لا أسألك اليوم إلا نفسي‏!‏ قال‏:‏ يا كعب، أين تجد ذلك في كتاب الله‏؟‏ قال‏:‏ قوله تعالى‏{‏يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون‏}‏‏.‏ وقال ابن عباس في هذه الآية‏:‏ ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد؛ فتقول الروح‏:‏ رب، الروح منك أنت خلقته، لم تكن لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، ولا أذن أسمع بها ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد، فضعف عليه أنواع العذاب ونجني؛ فيقول الجسد‏:‏ رب، أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة، ليس لي يد أبطش بها، ولا قدم أسعى به، ولا بصر أبصر به، ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشعاع النور، فبه نطق لساني، وبه أبصرت عيني، وبه مشت رجلي، وبه سمعت أذني، فضعف عليه أنواع العذاب ونجني منه‏.‏ قال‏:‏ فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعدا دخلا بستانا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمرة والمقعد لا ينالها، فنادى المقعد الأعمى ايتني فاحملني آكل وأطعمك، فدنا منه فحمله، فأصابوا من الثمرة؛ فعلى من يكون العذاب‏؟‏ قال‏:‏ عليكما جميعا العذاب؛ ذكره الثعلبي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 112 ‏)‏

‏{‏وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وضرب الله مثلا قرية‏}‏ هذا متصل بذكر المشركين‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على مشركي قريش وقال‏:‏ ‏(‏اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف‏)‏‏.‏ فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام، ووجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما ففرق فيهم‏.‏ ‏}‏كانت آمنة‏}‏ لا يهاج أهلها‏.‏ ‏}‏يأتيها رزقها رغدا من كل مكان‏}‏ من البر والبحر؛ نظيره ‏}‏يجبى إليه ثمرات كل شيء‏}‏القصص‏:‏ 57‏]‏ الآية‏.‏ ‏}‏فكفرت بأنعم الله‏}‏ الأنعم‏:‏ جمع النعمة؛ كالأشد جمع الشدة‏.‏ وقيل‏:‏ جمع نعمى؛ مثل بؤسى وأبؤس‏.‏ وهذا الكفران تكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏فأذاقها الله‏}‏ أي أذاق أهلها‏.‏ ‏}‏لباس الجوع والخوف‏}‏ سماه لباسا لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس‏.‏ ‏}‏بما كانوا يصنعون‏}‏ أي من الكفر والمعاصي‏.‏ وقرأه حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبي اسحاق والحسن وأبو عمرو فيما روى عنه عبدالوارث وعبيد وعباس ‏}‏والخوف‏}‏ نصبا بإيقاع أذاقها عليه، عطفا على ‏}‏لباس الجوع‏}‏ وأذاقها الخوف‏.‏ وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم سراياه التي كانت تطيف بهم‏.‏ وأصل الذوق بالفم ثم يستعار فيوضع موضع الابتلاء‏.‏ وضرب مكة مثلا لغيرها من البلاد؛ أي أنها مع جوار بيت الله وعمارة مسجده لما كفر أهلها أصابهم القحط فكيف بغيرها من القرى‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنها المدينة، آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كفرت بأنعم الله لقتل عثمان بن عفان، وما حدث بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتن‏.‏ وهذا قول عائشة وحفصة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مثل مضروب بأي قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 113 ‏)‏

‏{‏ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه‏}‏ هذا يدل على أنها مكة‏.‏ وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة‏.‏ ‏}‏فأخذهم العذاب‏}‏ وهو الجوع الذي وقع بمكة‏.‏ وقيل‏:‏ الشدائد والجوع منها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 114 ‏)‏

‏{‏فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فكلوا مما رزقكم الله‏}‏ أي كلوا يا معشر المسلمين من الغنائم‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب للمشركين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بطعام رقة عليهم، وذلك أنهم لما ابتلوا بالجوع سبع سنين، وقطع العرب عنهم الميرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أكلوا العظام المحرقة والجيفة والكلاب الميتة والجلود والعلهز، وهو الوبر يعالج بالدم‏.‏ ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا‏:‏ هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان‏.‏ وقال له أبو سفيان‏:‏ يا محمد، إنك جئت تأمر بصلة الرحم والعفو، وإن قومك قد هلكوا؛ فادع الله لهم‏.‏ فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذن للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 115 ‏)‏

‏{‏إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم‏}‏

تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ القول فيها مستوفى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 116 ‏:‏ 117 ‏)‏

‏{‏ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع قليل ولهم عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏لما تصف‏}‏ ما هنا مصدرية، أي لوصف‏.‏ وقيل‏:‏ اللام لام سبب وأجل، أي لا تقول لأجل وصفكم ‏}‏الكذب‏}‏ بنزع الخافض،، أي لما تصف ألسنتكم من الكذب‏.‏ وقرئ ‏}‏الكذب‏}‏ بضم الكاف والذال والباء، نعتا للألسنة‏.‏ وقرأ الحسن هنا خاصة ‏}‏الكذب‏}‏ بفتح الكاف وخفض الذال والباء، نعتا ‏}‏لما‏}‏؛ التقدير‏:‏ ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب‏.‏ وقيل على البدل من ما؛ أي ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب‏.‏ الآية خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كان ميتة‏.‏ فقوله تعالى‏{‏هذا حلال‏}‏ إشارة إلى ميتة بطون الأنعام، وكل ما أحلوه‏.‏ ‏}‏وهذا حرام‏}‏ إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموه‏.‏ ‏}‏إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع قليل‏}‏ أي ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عن قريب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي متاعهم متاع قليل‏.‏ وقيل‏:‏ لهم متاع قليل ثم يردون إلى عذاب أليم‏.‏

أسند الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش قال‏:‏ ما سمعت إبراهيم قط يقول حلال ولا حرام، ولكن كان يقول‏:‏ كانوا يكرهون وكانوا يستحبون‏.‏ وقال ابن وهب قال مالك‏:‏ لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا‏.‏ ومعنى هذا‏:‏ أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل، وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يكون البارئ تعالى يخبر بذلك عنه‏.‏ وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول‏:‏ إني أكره كذا‏.‏ وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد قال فيمن قال لزوجته أنت علي حرام إنها حرام ويكون ثلاثا‏.‏ فالجواب أن مالكا لما سمع علي بن أبي طالب يقول إنها حرام اقتدى به‏.‏ وقد يقوى الدليل على التحريم عند المجتهد فلا بأس عند ذلك أن يقول ذلك، كما يقول إن الربا حرام في غير الأعيان الستة، وكثيرا ما يطلق مالك رحمه الله؛ فذلك حرام لا يصلح في الأموال الربوية وفيما خالف المصالح وخرج عن طريق المقاصد لقوة الأدلة في ذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 118 ‏)‏

‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وعلى الذين هادوا‏}‏ بين أن الأنعام والحرث حلال لهذه الأمة، فأما اليهود فحرمت عليهم منها أشياء‏.‏ ‏}‏حرمنا ما قصصنا عليك من قبل‏}‏ أي في سورة الأنعام‏.‏ ‏}‏وما ظلمناهم‏}‏ أي بتحريم ما حرمنا عليهم، ولكن ظلموا أنفسهم فحرمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم؛ كما تقدم في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 119 ‏)‏

‏{‏ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم إن ربك للذين عملوا السوء‏}‏ أي الشرك؛ قاله ابن عباس‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 120 ‏)‏

‏{‏إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا‏}‏ دعا عليه السلام مشركي العرب إلى ملة إبراهيم؛ إذ كان أباهم وباني البيت الذي به عزهم؛ والأمة‏:‏ الرجل الجامع للخير، وقد تقدم محامله‏.‏ وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال‏:‏ بلغني أن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ يرحم الله معاذا‏!‏ كان أمة قانتا‏.‏ فقيل له‏:‏ يا أبا عبدالرحمن، إنما ذكر الله عز وجل بهذا إبراهيم عليه السلام‏.‏ فقال ابن مسعود‏:‏ إن الأمة الذي يعلم الناس الخير، وإن القانت هو المطيع‏.‏ وقد تقدم القنوت في ‏}‏البقرة‏}‏ و‏}‏حنيفا‏}‏ في ‏}‏الأنعام‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 121 ‏:‏ 122 ‏)‏

‏{‏شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏

قوله تعالى‏{‏شاكرا‏}‏ أي كان شاكرا‏.‏ ‏}‏لأنعمه‏}‏ الأنعم جمع نعمة، وقد تقدم‏.‏ ‏}‏اجتباه‏}‏ أي اختاره‏.‏ ‏}‏ وهداه إلى صراط مستقيم، وآتيناه في الدنيا حسنة‏}‏ قيل‏:‏ الولد الطيب‏.‏ وقيل الثناء الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ النبوة‏.‏ وقيل‏:‏ الصلاة مقرونة بالصلاة على محمد عليه السلام في التشهد‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ليس أهل دين إلا وهم يتولونه‏.‏ وقيل‏:‏ بقاء ضيافته وزيارة قبره‏.‏ وكل ذلك أعطاه الله وزاده صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ ‏}‏من‏}‏ بمعنى مع، أي مع الصالحين؛ لأنه كان في الدنيا أيضا مع الصالحين‏.‏ وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 123 ‏)‏

‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين‏}‏

قال ابن عمر‏:‏ أمر باتباعه في مناسك الحج كما علم إبراهيم جبريل عليهما السلام‏.‏ وقال الطبري‏:‏ أمر باتباعه في التبرؤ من الأوثان والتزين بالإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ أمر باتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه؛ قاله بعض أصحاب الشافعي على ما حكاه الماوردي‏.‏ والصحيح الاتباع في عقائد الشرع دون الفروع؛ لقوله تعالى‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا‏}‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏

مسألة‏:‏

في هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول - لما تقدم في الأصول - والعمل به، ولا درك على الفاضل في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم السلام، وقد أمر بالاقتداء بهم فقال‏{‏فبهداهم اقتده‏}‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏‏.‏ وقال هنا‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 124 ‏)‏

‏{‏إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه‏}‏ أي لم يكن في شرع إبراهيم ولا في دينه، بل كان سمحا لا تغليظ فيه، وكان السبت تغليظا على اليهود في رفض الأعمال وترك التبسيط في المعاش بسبب اختلافهم فيه، ثم جاء عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقال‏:‏ تفرغوا للعبادة في كل سبعة أيام يوما واحدا‏.‏ فقالوا‏:‏ لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، فاختاروا الأحد‏.‏ وقد اختلف العلماء في كيفية ما وقع لهم من الاختلاف؛ فقالت طائفة‏:‏ إن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة وعينه لهم، وأخبرهم بفضيلته على غيره، فناظروه أن السبت أفضل؛ فقال الله له‏:‏ ‏(‏دعهم وما اختاروا لأنفسهم‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله تعالى لم يعينه لهم، وإنما أمرهم بتعظيم يوم في الجمعة فاختلف اجتهادهم في تعيينه، فعينت اليهود السبت؛ لأن الله تعالى فرغ فيه من الخلق‏.‏ وعينت النصارى يوم الأحد؛ لأن الله تعالى بدأ فيه بالخلق‏.‏ فألزم كل منهم ما أداه إليه اجتهاده‏.‏ وعين الله لهذه الأمة يوم الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة، فكانت خير الأمم أمة‏.‏ روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له - قال يوم الجمعة - فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى‏)‏ فقوله‏:‏ ‏(‏فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه‏)‏ يقوي قول من قال‏:‏ إنه لم يعين لهم؛ فإنه لو عين لهم وعاندوا لما قيل ‏(‏اختلفوا‏)‏‏.‏ وإنما كان ينبغي أن يقال فخالفوا فيه وعاندوا‏.‏ ومما يقويه أيضا قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا‏)‏‏.‏ وهذا نص في المعنى‏.‏ وقد جاء في بعض طرقه ‏(‏فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم اختلفوا فيه‏)‏‏.‏ وهو حجة للقول الأول‏.‏ وقد روي‏:‏ ‏(‏إن الله كتب الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏على الذين اختلفوا فيه‏}‏ يريد في يوم الجمعة كما بيناه؛ اختلفوا على نبيهم موسى وعيسى‏.‏ ووجه الاتصال بما قبله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع الحق، وحذر الله الأمة من الاختلاف عليه فيشدد عليهم كما شدد على اليهود‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 125 ‏)‏

‏{‏ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏}‏

هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة 0 فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 126 ‏)‏

‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين‏}‏

أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفي كتاب السير‏.‏ وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا؛ لأنها تتدرج الرتب من الذي يُدعى ويُوعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله‏.‏ ولكن ما روى الجمهور أثبت‏.‏ روى الدارقطني عن ابن عباس قال‏:‏ لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى منظرا ساءه رأى حمزة قد شُق بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال‏:‏ ‏(‏لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير لأمثلن مكانه بسبعين رجلا‏)‏ ثم دعا ببردة وغطى بها وجهه، فخرجت رجلاه فغطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وجعل على رجليه من الإذخر، ثم قدمه فكبر عليه عشرا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه، حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية‏{‏ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة - إلى قوله - واصبر وما صبرك إلا بالله‏}‏ فصبر‏.‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمثل بأحد‏.‏ خرجه إسماعيل بن اسحاق من حديث أبي هريرة، وحديث ابن عباس أكمل‏.‏ وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت‏:‏ إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره‏.‏ وحكاه الماوردي عن ابن سيرين ومجاهد‏.‏

واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه؛ فقالت فرقة‏:‏ له ذلك؛ منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد؛ واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها‏.‏ وقال مالك وفرقة معه‏:‏ لا يجوز له ذلك؛ واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك‏)‏‏.‏ رواه الدارقطني‏.‏ ووقع في مسند ابن اسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر؛ فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر فقال له‏:‏ ‏(‏أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك‏)‏‏.‏ وعلى هذا يتقوى قول مالك في أمر المال؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك، وهي رذيلة لا انفكاك عنها، فينبغي أن يتجنبها لنفسه؛ فإن تمكن من الانتصاف من مال لم يأتمنه عليه فيشبه أن ذلك جائز وكأن الله حكم له؛ كما لو تمكن الأخذ بالحكم من الحاكم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذه الآية منسوخة، نسختها ‏}‏واصبر وما صبرك إلا بالله‏}‏‏.‏

في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص؛ فمن قتل بحديدة قتل بها‏.‏ ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب، وقد تقدم‏.‏

سمى الله تعالى الإذايات في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول، وهذا بعكس قوله‏{‏ومكروا ومكر الله‏}‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏ وقوله‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏البقرة‏:‏ 15‏]‏ فإن الثاني هنا هو المجاز والأول هو الحقيقة؛ قاله ابن عطية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 127 ‏:‏ 128 ‏)‏

‏{‏واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏}‏

قال ابن زيد‏:‏ هي منسوخة بالقتال‏.‏ وجمهور الناس على أنها محكمة‏.‏ أي اصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا في المثلة‏.‏ ‏}‏ولا تحزن عليهم‏}‏ أي على قتلى أحد فإنهم صاروا إلى رحمة الله‏.‏ ‏}‏ولا تكن في ضيق‏}‏ ضيق جمع ضيقة؛ قال الشاعر‏:‏

كشف الضيقة عنا وفسح

وقراءة الجمهور بفتح الضاد‏.‏ وقرأ ابن كثير بكسر الضاد، ورويت عن نافع، وهو غلظ ممن رواه‏.‏ قال بعض اللغويين‏:‏ الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر‏.‏ قال الأخفش‏:‏ الضيق والضيق مصدر ضاق يضيق‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يضيق صدرك من كفرهم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الضيق ما ضاف عنه صدرك، والضيق ما يكون في الذي يتسع ويضيق؛ مثل الدار والثواب‏.‏ وقال ابن السكيت‏:‏ هما سواء؛ يقال‏:‏ في صدره ضيق وضيق‏.‏ القتبي‏:‏ ضيق مخفف ضيق؛ أي لا تكن في أمر ضيق فخفف؛ مثل هين وهين‏.‏ وقال ابن عرفة‏:‏ يقال ضاق الرجل إذا بخل، وأضاق إذا افتقر‏.‏ وقوله‏{‏إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏}‏ أي الفواحش والكبائر بالنصر والمعونة والفضل والبر والتأييد‏.‏ وتقدم معنى الإحسان‏.‏ وقيل لهَرم بن حِبان عند موته‏:‏ أوصنا؛ فقال‏:‏ أوصيكم بآيات الله وآخر سورة النحل ‏}‏ادع إلى سبيل ربك‏}‏ إلى آخرها‏.‏